الأربعاء، 27 مارس 2013

افعل ولا حرج

يختلف الحج عن غيره من العبادات في بعض مباني القواعد الفقهية؛ إذ من المعلوم أن ترك واجب أو ركن عمداً في أي عبادة يبطلها، وهذا مما يختلف فيه الحج عن غيره؛ فإن ترْك واجبٍ من واجبات الحج، أو ركن من أركانه لا يبطله، حتى لو كان ذلك الترك عمداً، وإنما يلزم بهذا الترك ما يلزم لتصحيح الحج أو الخروج منه، إضافة إلى اختلافات أخرى ذكرها أهل العلم في هذا السياق.

واستناداً إلى ما تقدم، نحاول قراءة وفهم الحديثين التاليين، وما جاء في معناهما من أحاديث:


ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، فقال: (
اذبح ولا حرج)، فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي، قال: (ارمِ ولا حرج) فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج) رواه البخاري ومسلم.

وفي رواية ثانية، أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
افعل ولا حرج) لهن كلهن، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: (افعل ولا حرج) رواه البخاري ومسلم.
شرح مفردات الأحاديث

قول السائل: (لم أشعر) أي: لم أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعوراً إذا فطنت له؛ والشعور: هو العلم، وعلى هذا يكون المعنى: لم أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: (
عن شيء) أي: مما هو من أعمال يوم النحر، وهي: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (
افعل ولا حرج) معناه: افعل ما بقي عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير.
ما أفادته الأحاديث

موضوع هذه الأحاديث ورد في روايات مختلفة، وبصور مختلفة. والمستفاد من مذاهب أهل العلم في فقه هذه الأحاديث أنها واردة في أعمال يوم النحر خاصة، إذ جميع الروايات على اختلاف ألفاظها، وردت بخصوص أعمال هذا اليوم، إذ في هذا اليوم -يوم النحر- تكون أكثر أعمال الحج، فيكون فيه رمي جمرة العقبة (الكبرى)، ونحر الهدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة ؛ وعليه فلا تفيد مجمل هذه الأحاديث رفع الحرج في التقديم أو التأخير في أعمال الحج كافة  ؛ فلا يصح مثلاً رمي الجمار قبل وقوف عرفة، ولا يصح طواف الإفاضة قبل الوقوف، ولا السعي للمتمتع قبل طواف الإفاضة كذلك.

والسنة المتفق عليها في ترتيب أعمال يوم النحر، هي: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة ؛ وقد أجمع العلماء على استحباب هذا الترتيب. وأجمعوا كذلك على أن من قدم أو أخر شيئًا من أعمال يوم النحر، فإنه يجزئه ذلك، ويصح منه، بيد أنهم اختلفوا في وجوب الكفارة عليه، فأوجبها بعضهم، ولم يوجبها آخرون.


والذي ذهب إليه جمهور أهل العلم أنه لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، ولا على من قدم شيئًا أو أخره ساهيًا أو جاهلاً، أو حتى متعمدًا مما يُفعل يوم النحر. وقد رُويَ عن
الحسن وطاوس أنهما قالا: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي؛ ورويَ عن عطاء بن أبي رباح قوله: من قدَّم نسكًا قبل نسك فلا حرج.

ويؤيد قول الجمهور القائلين بعدم وجوب ترتيب أعمال يوم النحر، قوله صلى الله عليه وسلم: (
افعل ولا حرج) إذ لو كان الحديث لرفع الإثم عن الساهي والجاهل فحسب، لما كان له معنى حينئذ؛ لأن كل عبادة واجبة يتركها الإنسان، نسياناً أو جهلاً، فإنه لا إثم عليه بتركها، وإن كان مطالباً بتعويض ما أخلَّ فيه وقصَّر بحسب كل عبادة؛ بخلاف العامد، فإنه مع مطالبته بتعويض الخلل والنقص، يلحقه الإثم لتركه الواجب أو الركن عمداً.

فإذا تبيَّن هذا، علمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) لا يفيد فقط رفع الإثم عمن أخلَّ بترتيب أعمال يوم النحر، سهواً أو جهلاً؛ إذ إن هذا معلوم في مبادئ الشريعة، كما أنه غير مختص بأعمال يوم النحر، بل يشمل كل من أخلَّ بعمل من أعمال الحج سهواً أو جهلاً، فلا إثم عليه، وإن كان يجب عليه تدارك ذلك الخلل الحاصل، بحسب ما جاء في الشريعة، كما سبق.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (
افعل ولا حرج) يفيد أمراً زائداً على مجرد رفع الإثم، وهو رفع ما يترتب على الإخلال بترتيب أعمال يوم النحر؛ فلا يجب على من أخلَّ بترتيب أعمال ذلك اليوم فدية أو بدل أو غير ذلك، وإذا لم يلزم من الإخلال بهذا الترتيب شيء، فإنه يستوي فيه العامد والساهي والجاهل؛ لأن الترتيب لو كان واجباً لكان من باب المأمورات الشرعية التي لا تسقط بالنسيان أو الجهل. وبه يُعلم أن الحديث دالٌ على سنية الترتيب في أعمال يوم النحر، وأن الأفضل الإتيان بها وفق الترتيب النبوي، ولا يلزم في ترك هذا الترتيب شيء.

أما ما جاء في بعض الروايات من كون السائل كان جاهلاً بأحكام الحج، فإن هذا لا يفيد أن رفع الحرج خاص بحالة الجهل؛ لأن وصف السائل بالجهل إنما كان لبيان الواقع الذي حصل فيه السؤال، وهو لا يفيد تقييد الحكم وقصره على تلك الحالة دون غيرها.

ومهما يكن، فإن هذا الحديث برواياته المختلفة والمتعددة، يُعدُّ أصلاً في فقه أحكام الحج عموماً، كما يعد دليلاً قويًّا في تصحيح كثير من أعمال الحج التي تعرض وتطرأ لحجَّاج بيت الله الحرام خصوصاً؛ ففي الحديث فسحة وسعة من الأمر، وهو ما يدل على يُسر هذه الشريعة، وقصدها رفع الحرج عن العباد. وصدق الله إذ يقول في محكم تنـزيله: {
وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:87).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق