كانت
الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا عندما وصلنا باب الوادي وبالضبط إلى
نهج العقيد لطفي الذي لا يزال يحتفظ بالذكريات الأليمة لفيضانات 2001 التي
جرفت معها مئات الأرواح والممتلكات، ومن هذا النهج بدأت جولتنا الاستطلاعية
عبر شوارع البلدية
التي كانت ولا تزال تعبر عن أصالة وتقاليد سكان العاصمة·
حركة
كثيفة للمارة وشباب يشغلون الأرصفة بواسطة طاولات لبيع مختلف المستلزمات،
مقاهي ممتلئة عن آخرها بأشخاص أغلبهم شباب وشيوخ.. الطرقات كلها تختنق
بالسيارات التي يصعب على أصحابها التنقل بحكم ضيق الطرقات والأزقة وهذه هي
يوميات باب الوادي·
باب الوادي ·· 'يا حسراه على أيام زمان''
في
بداية جولتنا لفتت انتباهنا مجموعة من كبار السن جالسين أمام محل لبيع
أدوات الترصيص والتدفئة يتبادلون أطراف الحديث. كان موضوعهم واقع باب
الوادي بين الأمس واليوم، كيف كانت حياتهم وكيف أصبحت. تقربنا من هؤلاء،
ألقينا عليهم التحية وشاركناهم الحديث حول واقع حياتهم اليومية، قال لنا
عمي جمال، وهو من السكان الأصليين لباب الوادي، إن الحياة المعيشية تغيرت
كثيرا بحكم زوال الثقافة التي كان يتميز بها السكان سواء في لباسهم أو
وطريقة كلامهم وتفكيرهم وحتى في العادات والتقاليد والدين ''فباب الوادي
كانت باب الوادي في سنوات الستينيات والسبعينيات، طريقة حياتنا وعيشنا
آنداك كانت وكأننا في فرنسا التي تركت نظامها، فعلى الرغم من وجود الفقر
إلا أن الفقير يستطيع العيش، ليس مثل اليوم، فـ''المعيشة جد غالية''
والأسعار بالأسواق جد ملتهبة، فوضى عارمة بالطرقات التي تحولت أرصفتها إلى
أسواق فوضوية، ففي وقتنا التجارة كانت منظمة وكنا نقتني حاجياتنا من
المحلات والأسعار تختلف حسب النوعية وقدرة المشتري، ومن جهة أخرى حتى
تقاليدنا اختفت، فعلى سبيل المثال المرأة تخلت عن لباسها المحتشم المتمثل
في ''حايك المرمة'' و''السروال المدور''، وحلت محلها الألبسة الفاضحة التي
نراها اليوم، فأيامنا أصبحت متشابهة، أنا فبصفتي متقاعد أقضي كل أوقاتي
بين المنزل والسوق والجلوس مع الأحباب والأصدقاء لتبادل أطراف الحديث'' ·
يوميات
عمي لخضر هي الأخرى تغيرت عن السابق منذ أن سكن باب الوادي سنة ,1964 قال
أنه دخل العاصمة بالكاليش سنة ,1934 وهو اليوم يملك محلا لبيع أدوات
الترصيص والتدفئة، وبالتالي فهو يقضي كل نهاره جالسا به وكما قال ''كنت
أعمل واليوم أنا جالس وآكل التفاح والموز''·
الشومارة : ''الحرفة'' في الأذهان ·· ''المعيشة مكان مكان''
عدد
كبير من الشباب متجمعون بالأحياء والمقاهي بسبب شبح البطالة الذي يطاردهم
في كل مكان ولم يجدوا لأنفسهم منه مخرجا، فمنهم من لجأ إلى البيع بطاولات
بالأحياء من أجل اكتساب لقمة العيش، ومنهم من اتخذ من الشارع مكانا للوقوف
على مدار ساعات اليوم يترقب المارة ليملأ الفراغ الممل والتفكير في
''الحرفة'' كحل بالرغم من أنها مجازفة، وهذا ما حدثنا به شباب باب الوادي
الذين صادفناهم في طريقنا، فيوسف صاحب 21 ربيعا يقول أنه ترك الدراسة منذ
سنوات بحكم الظروف الاجتماعية والمعيشية التي فرضت عليه ذلك ''غادرت مقاعد
الدراسة في السنة الثامنة أساسي ولجأت إلى التجارة من أجل كسب لقمة العيش،
لكن سئمت من الوضع ومن مطاردات الشرطة في كل مرة، فكرت في ''الحرفة''
وحاولت مرارا، لكن لم أنجح. بعد ذلك ''تفطنت لحالي'' ووجدت في الفكرة
مجازفة والحياة غالية، ولن أجني شيئا من ذلك عدى الحسرة والندم.. عدت مجددا
إلى تجارتي رغم أنها ليست مستقرة مثلي مثل عدد كبير من شباب البلدية، في
كل صباح أنصب طاولتي لعرض سلعي بنهج العقيد لطفي حتى أعيل عائلتي لأنني رجل
البيت، خضعت في السابق إلى تكوين في مجال صنع الحلويات لكنني لم أجد عملا
مستقرا، وهذا ما أريد الحصول عليه ولو طاولة في سوق تكون من حقي تريحني
وتريح الكثير من الشباب من مطاردات الشرطة التي تحجز في كل مرة على سلعنا،
وهذا هو حال الشباب الذي حتمت عليهم الظروف اللجوء إلى المخدرات والسرقة من
أجل النسيان واكتساب المال عن طريق الانحراف''·
كويرات في سوق الساعات الثلاث ويقول ''فيف باب الواد''!
في
حدود الساعة الثانية عشر وصلنا إلى السوق المركزي للساعات الثلاث الذي كان
ممتلئا عن آخره بالمتسوقين الذين قصدوه من كل مكان، فوضى كبيرة في مكان
تعمه النفايات والمياه القذرة، روائح كريهة خاصة أمام مدخل السوق وبالضبط
مكان بيع الأسماك، أصوات الباعة تتعالى من كل اتجاه. وقفنا بالقرب منهم من
أجل معرفة الأسعار، وما لفت انتباهنا الأطفال الذين كانوا يبيعون قطع
الصابون، فرفيق هو واحد منهم، قال أن عمره لا يتعدى الخمسة عشر، لكنه ترك
مؤخرا الدراسة من أجل العمل كون الدراسة لم تنفعه وحسب ما قال ''باش نعاون
روحي''، وكان أول من صادفناه هو الممثل القدير سيد علي كويرات الذي عبر
لنا عن فرحته بالتحدث إلينا قائلا ''فيف باب الوادي''، وأضاف أن هذا السوق
هو المفضل لديه منذ القدم، يقصده في كل مرة من أجل التسوق واقتناء مستلزمات
بيته وهذا بحكم انخفاض أسعار الخضر خاصة، بالإضافة إلى ذلك فإنه يقصد باب
الوادي من أجل لقاء الأصدقاء والأحباب، كون سكان المنطقة يرحبون به كثيرا
ولا يريد أكثر من ذلك ، فـ''حاليا أنا متقاعد، إن كان ثمة فيلم يعرض عليّ
فبها ونعمت، وإن لم يكن فأنا جالس أقضي أوقاتي بين البيت والمسجد والاهتمام
بأولادي''.. وبعد حديثه معنا ودعنا وغادر المكان··
''سوق الوالي اشتري ماكتب ربي''
بعدها
توجهنا إلى مكان بيع الخضر والفواكه، كانت الحركة كثيفة وأسعار الخضر
منخفضة بالمقارنة مع الأسواق الأخرى بالعاصمة، فأسعار البطاطا كانت تتراوح
بين 35 و43 دج ، الفلفل بـ120 دج، البصل والطماطم بـ60 دج·· تقربنا من
إحدى السيدات التي كانت بصدد شراء البطاطا، طرحنا عليها سؤالا حول الأسعار
فردت قائلة بأن الأسعار معقولة عدى أسعار الفواكه التي ليست في متناول
الجميع ''اشريت واش كتب ربي''، وأضافت أنها تقريبا يوميا تأتي إلى هذا
السوق من أجل قضاء حاجياتها، فزوجها متقاعد وكل أولادها يعملون وهي مضطرة
إلى ذلك·
الشارع·· المفر من ضيق السكن
حاولنا
معرفة سبب الاكتظاظ الذي يعم الشوارع خاصة الواقفين والمتكئين على الجدران
والجالسين بالمقاهي، رد علينا أغلبهم أنهم يضطرون إلى الخروج إلى الشارع
هروبا من ضيق السكنات بالمقارنة مع عدد أفراد العائلة الواحدة وكذا ملأ
الفراغ سواء بالنسبة للمتقاعدين أو الشباب البطال، بعد ذلك قصدنا سيدة خرجت
من سوق الساعات الثلاث بعد قضاء حاجياتها وكانت متوجهة إلى بيتها،
رافقناها وطلبنا منها أن تسمح لنا بزيارة بيتها المتواضع الكائن بالقرب من
السوق بعدما تحدثنا معها عن ظروف الحياة بباب الوادي، هذه الأخيرة رفضت
دخول المصور بحكم أن زوجها غائب،رحبت بي كثيرا في منزلها ودعتني إلى تناول
الغذاء معها لكن شكرتها وفضلت أن تقص علينا واقع معيشتها في باب الوادي وفي
بيتها المتكون من غرفتين فقط، قالت أن هذا البيت يضم ثمانية أفراد، منهم
من ينام في المطبخ ومنهم من ينام بالرواق و''نحن في ضائقة منذ سنوات عديدة،
سكنت هنا منذ سنة ,1969 وقدمت عدة طلبات سكن بالبلدية لكن لم نستفد ليومنا
هذا، فأولادي في سن الزواج لكنهم لم يتمكنوا من ذلك بسبب أزمة السكن وكذا
البطالة وهذا ما يدفعهم إلى الهروب إلى الشارع لأنهم بحاجة إلى غرفة مستقلة
وهذا غير موجود، فهذا هو حال معظم سكان باب الوادي وأكثر من ذلك، فعائلات
أعرفها يلجأ أفرادها إلى النوم بالتناوب أو تخصيص سياراتهم لذلك''··
شكرنا السيدة على كرم ضيافتها رغم ضيق مسكنها وليس هذا غريبا على سكان باب
الواد الكرماء·· تركنا البيت وقفلنا عائدين إلى مقر الجريدة، بعد يوم
قضيناه في أحضان باب الوادي الشهداء·· يوم لم تفارقنا فيه صور الوجوه
المتعبة ومظاهر العيش البسيطة المتواضعة· هذا هو باب الوادي ···
اعداد نعمان عبد الله الشطيبي |
الأربعاء، 4 يوليو 2012
باب الوادي ·· 'يا حسراه على أيام زمان''
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق