من المؤكد أن
القنوات الموثوقة تتحمل مسؤولية أكبر من غيرها عند صياغة العناوين أو
الأخبار. لذلك كان العنوان التالي لتقرير على قناة 'BBC العربي' صادماً:
'الإسلاميون المتشددون في مالي يشترون الأطفال للحرب ويجبرون النساء على ممارسة الدعارة'
السبب الأول، لأن القنوات أصبحت تلقب المجموعات التي تصف أنفسها بـ'إسلامية' بذات الصفة التي خلعتها تلك المجموعات على أنفسها، بغض النظر عن همجيتها وبراءة الإسلام من أفعالها التي حادت عن كل ما يمثل الإسلام، ولأنها وصمت هذه العقيدة بأسوأ أشكال العنف المقزز، وذلك دون أي توضيح أو إشارة من قبل تلك القنوات بأن هذه المسميات هي ادعاء. لا يجوز للفضائيات أن تقف مكتوفة الأيدي حيال تزييف أي مجرم لهويته بإطلاق ما شاء على نفسه من ألقاب الورع دون توضيح ذلك لأنها بذلك تسمح له بامتطاء سمعتها بالاستفادة من هذا الغطاء الإعلامي لتعزيز عنفه وهمجيته والحصول على دعاية مجانية تحقق مبتغاه من تخويف وترهيب للمدنيين.
لكن الجزء الأهم والذي أثار انتباهي وخيبة أملي معاً من ناحية مهنية، هو أن العنوان شيء ومتن الخبر شيء آخر. إذ أن العنوان قال أن 'الإسلاميين المتشددين في مالي يجبرون النساء على ممارسة الدعارة' بينما محتوى التقرير يفيد بأن إيفان سايمونفيتش، مبعوث الأمم المتحدة قام بزيارة لتقصي الحقائق في مالي، وتحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المناطق التي يسيطر عليها من وصفتهم 'BBC' بالإسلاميين المتشددون وأنه قال حسب متن تقرير BBC أن 'السيدات يجبرن على الزواج دون رغبتهن، وإنه يجري إعادة بيع الزوجات فيما يمثل دعارة بالإكراه'.
من المعروف أن حرفة الصحفي هي صياغة الكلام لكن مع مراعاة الدقة والتزام النزاهة في نقل الخبر. فالدعارة التي وردت في العنوان شيء، ووصف مبعوث الأمم المتحدة للوضع وتشبيهه بالدعارة شيء آخر، رغم أن كلا الحالتين فيهما انتهاك لحقوق المرأة. فإكراه النساء على الزواج معروف في كثير من المجتمعات، البدائية منها، والتي تدعي التحضر بين العائلات الغنية التي تسعى لدمج ثروات أسرتين على حساب تزويج المرأة حتى في المجتمعات الغربية الثرية التي تجتهد في التوفيق بين رجل وامرأة لمجرد المصالح. ومحاولة وصف مبعوث الأمم المتحدة للوضع بتشبيهه حسب قوله' فيما يشبه الدعارة بالإكراه' شيء آخر تماماً، والعنوان الذي حاكته 'BBC العربي' ليبدو الخبر مؤكداً وليس مجرد تشبيه او محاولة لإيصال فكره هو أمر مختلف تماماً.
للأسف فضائية BBCالعربي لا تلتزم ذات المعايير المهنية التي تلتزم بها شقيقاتها من أذرع الشركة الأخرى التي تبث بالانجليزية. وأحياناً يهيأ إلي وأنا أقرأ أو أستمع لبعض تقاريرها بأنني أتابع موقع إحدى فضائيات الشرق الأوسط المفلسة من الجمهور، والتي تحاول اصطياد ود أي شريحة ممكنة لرفع نسبة المشاهدة باستخدام العناوين الفضائحية والمبالغ فيها، وفي هذا النهج اغتراب عن أخلاقيات المهنة التي تستدعي التزام الدقّة في اختيار الألفاظ، وأبعد ما تكون عن مهنية قناة BBC ذات السمعة الموروثة عن خدماتها الاذاعية العريقة بانتهاج الدقة.
قناة FOX NEWS وقراءة ايماءات الجسد
قال مذيع أخبار FOX NEWS المعروف كريس والاس وبغضب واضح 'لم أر في حياتي مرشحاً عديم الاحترام مثلما كان جو بايدن الليلة'.
جاء هذا التصريح العلني على شاشة 'FOX NEWS' من قبل الإعلامي المعروف كريس والاس الذي حضر الغالبية العظمى من المناظرات بين المرشحين الأمريكان للرئاسة منذ الستينات. ربما منحته هذه الخبرة مهارة إعلامية إضافية في قراءة وتحليل كل لفته وإيماءة يقوم بها الضيف أو ربما لأنه قد يكون شخصياً أحد المعارضين للديمقراطيين.
صبّ المذيع جام غضبه على نائب الرئيس، المرشح الديمقراطي جو بايدن، لأنه ابتسم وضحك بشكل مبالغ فيه وحرك رأسه وقام بحركات وظف فيها حاجبيه ويديه وجسده بطريقة تنم عن ازدرائه لآراء المرشح الجمهوري عضو الكونغرس الأمريكي، بول ريان، الذي ناظره من خلال القناة على الهواء واختلف معه حول سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية والاقتصاد، والذي عارضه خصوصاً في اقتراح دخول حرب مع إيران على خلفية احتمال تصنيعها لأسلحة نووية.
قال الإعلامي كريس والاس بأنه لم ير على امتداد سنوات خدمته في القنوات التلفزيونية شخصاً عديم الاحترام لخصمه مثل بايدن. ووصف تصرفه بأنه سابقة من نوعها. وعرضت FOX NEWS مع تصريحه مقاطع تم تحريرها بينّت وأيدّت تصريحه حيث بدا بايدن وهو يكيل ابتسامات السخرية ويبرم شفتيه ويرفع حاجبيه بازدراء كلما تحدث خصمه، في محاولة منه للتقليل من شأن ما قاله خصمه وليزرع الشك في صحة أقواله.
الموضوع هنا متعلق بتقييم الإعلام والمجتمع للشخص المنافس سياسياً من خلال أسلوب تعامله مع الخصم. فالمتوقع من الشخص الذي يمكن الوثوق برأيه وقيادته أن يثبت أيضاً بأنه يحترم الرأي الآخر دون تنمّر أو استفزاز، وبالذات رأي معارضه أو منافسه لأن في هذا الاحترام اعتراف بالتعددية السياسية التي جعلت من المنافسه أمراً في صالح المجتمع.
بعد أن استمعت لرأي كريس والاس، استحضرت ذاكرتي شريطاً من الصور المتتابعة لضيوف حلقات الزميل فيصل القاسم على قناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس، والذي ما زال مستمراً منذ سنوات. وأدركت أنه لولا تيقن إدارة القناة من ان هناك فائضا من الديكة الذين لا يعرفون كيف يجرون نقاشاً بشكل متحضّر لما تم إقرار البرنامج من الأصل ولا استمر حتى هذا الحين لأنه يعتمد على عنصر الإثارة.
للأسف علينا أن نعترف بأننا كشعوب عربية، نمثل مجموعة سيئة من البشر في مجال التعبير عن الرأي أمام الخصم كأفراد أو كجماعات. غالبيتنا يمارس التسلق الصوتي والصراخ والتشنج والشتائم وتبادل الإتهامات لإثبات وجهة نظره. هذا الأسلوب البدائي من أساليب محاولة تحقيق الانتصار لم يعد مقبولاً. علينا أن نتعلم تقديم الإثباتات بالأرقام والإحصائيات وإقناع الآخر برأينا وتقديم إثباتاتنا الدامغة بطريقة حضارية وألفاظ مفهومة مباشرة وجمل قصيرة مركزّة. هذه هي الوسيلة الوحيدة المفهومة في عصر الفضائيات الحديثة التي بالكاد تمنح بضعة دقائق للشخص ليشرح وجهة نظره.
على امتداد سنوات ضاعت حقوقنا لأننا فشلنا في توظيف الجهد والمال في تطوير كفاءات من يتقنون المناظرة بأساليب نزيهة مباشرة وخالية من العواطف المشحونة أثناء عرض مواقفنا من خلال الفضائيات الدولية. لا يوجد لدينا عدد يزيد عن أصابع اليد الواحدة من الشخصيات العربية المتحدثة اللبقة التي تجيد المناظرة، ولا يوجد فكرة تبنّي وإعداد مثل هؤلاء كما تفعل إسرائيل مثلاً. إذ جنّدت أفراداً متخصصين في إدارة الحوارات من خلال الإعلام لينوبوا بالشرح عن سياساتها. نراهم في كل أزمة وعلى أكثر من فضائية يمارسون المراوغة بتأدب مفتعل، بينما ممثلنا يغرق في فنجان قهوته لأنه لم يتم تدريبه على أساليب الحوار واستقطاب الجماهير على الفضائيات، أوتجهيز الإجابات التي تجعله يسجل نقطة لصالح قضيته.
هناك تخصصات فريدة في مجال الإعلام ومن ضمنها قراءة لغة الجسد. وهؤلاء المتخصصون ينتظرون اللحظة الأولى لظهور أي شخصية سياسية جديدة على الساحة ليقرأوا من خلال وقفته، وحركته، ولمسه لملابسه، وإيماءاته مكامن ضعفه وقوته لتحليل شخصيته ومن ثم معرفة كيفية التعامل معه. فالذي لا يلتزم بالمعايير الأوروبية للإتيكيت قد يرى من قبل العامة على أنه إنسان بسيط لا يليق بمنصبه السياسي، لكن من وجهة نظر من يراقبونه لتكوين رأي متخصص عنه، قد يحذرونه لأنه من ضمن هؤلاء الذين لا يبدون كبير اهتمام لذوي الرأي المغاير ممن يمارسون ضغوطاً على الكيانات الأصغر. فمن وجهة نظر البعض، هو شخص لا يمكن الاستهانة به ولا التوصل لاتفاقات معه بسهولة، وقد يكون أخطر من أولئك الذين يحرصون على إرضاء ذوق من يطلقون على أنفسهم متحضرّي العالم الأول.
قناة الجزيرة ولعبة عضّ الأصابع
من الجميل والمفيد توظيف الفضائيات للتقنيات الحديثة بأشكالها المختلفة لإيصال المعلومة إلى الجمهور المتابع. أحد أشكال هذه التوظيفات، الخريطة التفاعلية الموجودة على موقع قناة الجزيرة العربي. إذ بمجرد الضغط على المساحة التي تمثل أي دولة عربية، يستطيع المتابع قراءة آخر أربعة أخبار تخص تلك الدولة.
من خلال متابعة الأخبار الواردة على هذه الخريطة لعدة أيام، يمكن للمتابع تكوين رأي عن الأوضاع في كل دولة عربية على حدة. والأهم من ذلك يمكنه تكوين رأي عن موقف القناة وسياساتها من كل دولة من تلك الدول إذا كان مطلعاً على مصادر إخبارية أخرى بحيث يستطيع المقارنة وتحديد الأخبار التي أغفلت في التغطيات، كما يمكن للمشاهد تقييم كفاءة طاقم مراسليها ممن يزودونها بالأخبار من تلك المنطقة بالذات أو محدودية تحركهم. وكمية الفلترة المفروضة في كل منطقة على حدة.
فبينما تعج الخريطة بالأخبار السياسية والحراكات الشعبية في الغالبية العظمى من الدول العربية، نجد أخبار ثلاثة دول مستثناة من هذا التعميم. فالغالبية العظمى من أخبار الإمارات تتعلق بالمعارض وإدخال التقنيات وأخبار الاقتصاد، دون تطرق إلى أي من الأحداث السياسية التي تغطيها القنوات الإخبارية العالمية من مطالبات بالإصلاح أو أخبار سجناء الرأي أو حقوق الإنسان المتعلقة بالعمالة الوافدة. كذلك الأخبار الواردة من قطر تتعلق غالباً بالأحداث الرياضية ونشاطات المؤتمرات دون التطرق إلى أدوارها السياسية في إعادة تشكيل القوى في المنطقة. وأخبار المملكة العربية السعودية أيضاُ محصورة بالرياضة والأخبار الدينية المتعلقة بالبناء والتعمير والتوسعة للحجاج والزائرين والفتاوي، دون تعرض معمق للشأن السياسي. قد يكون سبب الحذر هنا بدافع تساوي قوة الفكين في لعبة قضم الأصابع. إذ أن المملكة العربية السعودية لديها الماكينة الإعلامية القوية ذات الانتشار الواسع والتي بإمكانها من خلالها ضرب الجزيرة تحت الحزام لو تجرأت بكشف ما يستحب لها تركه تحت الغطاء أو لو حاولت النفخ في الرماد.
'الإسلاميون المتشددون في مالي يشترون الأطفال للحرب ويجبرون النساء على ممارسة الدعارة'
السبب الأول، لأن القنوات أصبحت تلقب المجموعات التي تصف أنفسها بـ'إسلامية' بذات الصفة التي خلعتها تلك المجموعات على أنفسها، بغض النظر عن همجيتها وبراءة الإسلام من أفعالها التي حادت عن كل ما يمثل الإسلام، ولأنها وصمت هذه العقيدة بأسوأ أشكال العنف المقزز، وذلك دون أي توضيح أو إشارة من قبل تلك القنوات بأن هذه المسميات هي ادعاء. لا يجوز للفضائيات أن تقف مكتوفة الأيدي حيال تزييف أي مجرم لهويته بإطلاق ما شاء على نفسه من ألقاب الورع دون توضيح ذلك لأنها بذلك تسمح له بامتطاء سمعتها بالاستفادة من هذا الغطاء الإعلامي لتعزيز عنفه وهمجيته والحصول على دعاية مجانية تحقق مبتغاه من تخويف وترهيب للمدنيين.
لكن الجزء الأهم والذي أثار انتباهي وخيبة أملي معاً من ناحية مهنية، هو أن العنوان شيء ومتن الخبر شيء آخر. إذ أن العنوان قال أن 'الإسلاميين المتشددين في مالي يجبرون النساء على ممارسة الدعارة' بينما محتوى التقرير يفيد بأن إيفان سايمونفيتش، مبعوث الأمم المتحدة قام بزيارة لتقصي الحقائق في مالي، وتحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المناطق التي يسيطر عليها من وصفتهم 'BBC' بالإسلاميين المتشددون وأنه قال حسب متن تقرير BBC أن 'السيدات يجبرن على الزواج دون رغبتهن، وإنه يجري إعادة بيع الزوجات فيما يمثل دعارة بالإكراه'.
من المعروف أن حرفة الصحفي هي صياغة الكلام لكن مع مراعاة الدقة والتزام النزاهة في نقل الخبر. فالدعارة التي وردت في العنوان شيء، ووصف مبعوث الأمم المتحدة للوضع وتشبيهه بالدعارة شيء آخر، رغم أن كلا الحالتين فيهما انتهاك لحقوق المرأة. فإكراه النساء على الزواج معروف في كثير من المجتمعات، البدائية منها، والتي تدعي التحضر بين العائلات الغنية التي تسعى لدمج ثروات أسرتين على حساب تزويج المرأة حتى في المجتمعات الغربية الثرية التي تجتهد في التوفيق بين رجل وامرأة لمجرد المصالح. ومحاولة وصف مبعوث الأمم المتحدة للوضع بتشبيهه حسب قوله' فيما يشبه الدعارة بالإكراه' شيء آخر تماماً، والعنوان الذي حاكته 'BBC العربي' ليبدو الخبر مؤكداً وليس مجرد تشبيه او محاولة لإيصال فكره هو أمر مختلف تماماً.
للأسف فضائية BBCالعربي لا تلتزم ذات المعايير المهنية التي تلتزم بها شقيقاتها من أذرع الشركة الأخرى التي تبث بالانجليزية. وأحياناً يهيأ إلي وأنا أقرأ أو أستمع لبعض تقاريرها بأنني أتابع موقع إحدى فضائيات الشرق الأوسط المفلسة من الجمهور، والتي تحاول اصطياد ود أي شريحة ممكنة لرفع نسبة المشاهدة باستخدام العناوين الفضائحية والمبالغ فيها، وفي هذا النهج اغتراب عن أخلاقيات المهنة التي تستدعي التزام الدقّة في اختيار الألفاظ، وأبعد ما تكون عن مهنية قناة BBC ذات السمعة الموروثة عن خدماتها الاذاعية العريقة بانتهاج الدقة.
قناة FOX NEWS وقراءة ايماءات الجسد
قال مذيع أخبار FOX NEWS المعروف كريس والاس وبغضب واضح 'لم أر في حياتي مرشحاً عديم الاحترام مثلما كان جو بايدن الليلة'.
جاء هذا التصريح العلني على شاشة 'FOX NEWS' من قبل الإعلامي المعروف كريس والاس الذي حضر الغالبية العظمى من المناظرات بين المرشحين الأمريكان للرئاسة منذ الستينات. ربما منحته هذه الخبرة مهارة إعلامية إضافية في قراءة وتحليل كل لفته وإيماءة يقوم بها الضيف أو ربما لأنه قد يكون شخصياً أحد المعارضين للديمقراطيين.
صبّ المذيع جام غضبه على نائب الرئيس، المرشح الديمقراطي جو بايدن، لأنه ابتسم وضحك بشكل مبالغ فيه وحرك رأسه وقام بحركات وظف فيها حاجبيه ويديه وجسده بطريقة تنم عن ازدرائه لآراء المرشح الجمهوري عضو الكونغرس الأمريكي، بول ريان، الذي ناظره من خلال القناة على الهواء واختلف معه حول سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية والاقتصاد، والذي عارضه خصوصاً في اقتراح دخول حرب مع إيران على خلفية احتمال تصنيعها لأسلحة نووية.
قال الإعلامي كريس والاس بأنه لم ير على امتداد سنوات خدمته في القنوات التلفزيونية شخصاً عديم الاحترام لخصمه مثل بايدن. ووصف تصرفه بأنه سابقة من نوعها. وعرضت FOX NEWS مع تصريحه مقاطع تم تحريرها بينّت وأيدّت تصريحه حيث بدا بايدن وهو يكيل ابتسامات السخرية ويبرم شفتيه ويرفع حاجبيه بازدراء كلما تحدث خصمه، في محاولة منه للتقليل من شأن ما قاله خصمه وليزرع الشك في صحة أقواله.
الموضوع هنا متعلق بتقييم الإعلام والمجتمع للشخص المنافس سياسياً من خلال أسلوب تعامله مع الخصم. فالمتوقع من الشخص الذي يمكن الوثوق برأيه وقيادته أن يثبت أيضاً بأنه يحترم الرأي الآخر دون تنمّر أو استفزاز، وبالذات رأي معارضه أو منافسه لأن في هذا الاحترام اعتراف بالتعددية السياسية التي جعلت من المنافسه أمراً في صالح المجتمع.
بعد أن استمعت لرأي كريس والاس، استحضرت ذاكرتي شريطاً من الصور المتتابعة لضيوف حلقات الزميل فيصل القاسم على قناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس، والذي ما زال مستمراً منذ سنوات. وأدركت أنه لولا تيقن إدارة القناة من ان هناك فائضا من الديكة الذين لا يعرفون كيف يجرون نقاشاً بشكل متحضّر لما تم إقرار البرنامج من الأصل ولا استمر حتى هذا الحين لأنه يعتمد على عنصر الإثارة.
للأسف علينا أن نعترف بأننا كشعوب عربية، نمثل مجموعة سيئة من البشر في مجال التعبير عن الرأي أمام الخصم كأفراد أو كجماعات. غالبيتنا يمارس التسلق الصوتي والصراخ والتشنج والشتائم وتبادل الإتهامات لإثبات وجهة نظره. هذا الأسلوب البدائي من أساليب محاولة تحقيق الانتصار لم يعد مقبولاً. علينا أن نتعلم تقديم الإثباتات بالأرقام والإحصائيات وإقناع الآخر برأينا وتقديم إثباتاتنا الدامغة بطريقة حضارية وألفاظ مفهومة مباشرة وجمل قصيرة مركزّة. هذه هي الوسيلة الوحيدة المفهومة في عصر الفضائيات الحديثة التي بالكاد تمنح بضعة دقائق للشخص ليشرح وجهة نظره.
على امتداد سنوات ضاعت حقوقنا لأننا فشلنا في توظيف الجهد والمال في تطوير كفاءات من يتقنون المناظرة بأساليب نزيهة مباشرة وخالية من العواطف المشحونة أثناء عرض مواقفنا من خلال الفضائيات الدولية. لا يوجد لدينا عدد يزيد عن أصابع اليد الواحدة من الشخصيات العربية المتحدثة اللبقة التي تجيد المناظرة، ولا يوجد فكرة تبنّي وإعداد مثل هؤلاء كما تفعل إسرائيل مثلاً. إذ جنّدت أفراداً متخصصين في إدارة الحوارات من خلال الإعلام لينوبوا بالشرح عن سياساتها. نراهم في كل أزمة وعلى أكثر من فضائية يمارسون المراوغة بتأدب مفتعل، بينما ممثلنا يغرق في فنجان قهوته لأنه لم يتم تدريبه على أساليب الحوار واستقطاب الجماهير على الفضائيات، أوتجهيز الإجابات التي تجعله يسجل نقطة لصالح قضيته.
هناك تخصصات فريدة في مجال الإعلام ومن ضمنها قراءة لغة الجسد. وهؤلاء المتخصصون ينتظرون اللحظة الأولى لظهور أي شخصية سياسية جديدة على الساحة ليقرأوا من خلال وقفته، وحركته، ولمسه لملابسه، وإيماءاته مكامن ضعفه وقوته لتحليل شخصيته ومن ثم معرفة كيفية التعامل معه. فالذي لا يلتزم بالمعايير الأوروبية للإتيكيت قد يرى من قبل العامة على أنه إنسان بسيط لا يليق بمنصبه السياسي، لكن من وجهة نظر من يراقبونه لتكوين رأي متخصص عنه، قد يحذرونه لأنه من ضمن هؤلاء الذين لا يبدون كبير اهتمام لذوي الرأي المغاير ممن يمارسون ضغوطاً على الكيانات الأصغر. فمن وجهة نظر البعض، هو شخص لا يمكن الاستهانة به ولا التوصل لاتفاقات معه بسهولة، وقد يكون أخطر من أولئك الذين يحرصون على إرضاء ذوق من يطلقون على أنفسهم متحضرّي العالم الأول.
قناة الجزيرة ولعبة عضّ الأصابع
من الجميل والمفيد توظيف الفضائيات للتقنيات الحديثة بأشكالها المختلفة لإيصال المعلومة إلى الجمهور المتابع. أحد أشكال هذه التوظيفات، الخريطة التفاعلية الموجودة على موقع قناة الجزيرة العربي. إذ بمجرد الضغط على المساحة التي تمثل أي دولة عربية، يستطيع المتابع قراءة آخر أربعة أخبار تخص تلك الدولة.
من خلال متابعة الأخبار الواردة على هذه الخريطة لعدة أيام، يمكن للمتابع تكوين رأي عن الأوضاع في كل دولة عربية على حدة. والأهم من ذلك يمكنه تكوين رأي عن موقف القناة وسياساتها من كل دولة من تلك الدول إذا كان مطلعاً على مصادر إخبارية أخرى بحيث يستطيع المقارنة وتحديد الأخبار التي أغفلت في التغطيات، كما يمكن للمشاهد تقييم كفاءة طاقم مراسليها ممن يزودونها بالأخبار من تلك المنطقة بالذات أو محدودية تحركهم. وكمية الفلترة المفروضة في كل منطقة على حدة.
فبينما تعج الخريطة بالأخبار السياسية والحراكات الشعبية في الغالبية العظمى من الدول العربية، نجد أخبار ثلاثة دول مستثناة من هذا التعميم. فالغالبية العظمى من أخبار الإمارات تتعلق بالمعارض وإدخال التقنيات وأخبار الاقتصاد، دون تطرق إلى أي من الأحداث السياسية التي تغطيها القنوات الإخبارية العالمية من مطالبات بالإصلاح أو أخبار سجناء الرأي أو حقوق الإنسان المتعلقة بالعمالة الوافدة. كذلك الأخبار الواردة من قطر تتعلق غالباً بالأحداث الرياضية ونشاطات المؤتمرات دون التطرق إلى أدوارها السياسية في إعادة تشكيل القوى في المنطقة. وأخبار المملكة العربية السعودية أيضاُ محصورة بالرياضة والأخبار الدينية المتعلقة بالبناء والتعمير والتوسعة للحجاج والزائرين والفتاوي، دون تعرض معمق للشأن السياسي. قد يكون سبب الحذر هنا بدافع تساوي قوة الفكين في لعبة قضم الأصابع. إذ أن المملكة العربية السعودية لديها الماكينة الإعلامية القوية ذات الانتشار الواسع والتي بإمكانها من خلالها ضرب الجزيرة تحت الحزام لو تجرأت بكشف ما يستحب لها تركه تحت الغطاء أو لو حاولت النفخ في الرماد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق