قبل مائة وعشرين عاما تقريبا، بقدوم عيد الفطر المبارك، والاستعدادات التي
يبذلها أهالي المدينة التي يقدسها جميع المسلمين لاستقبال هذه المناسبة
الدينية.
ونقل هورخرونيه (1857-1935)، الذي نجح بالدخول إلى مكة في عام 1885 بصفته مسلما، وقضى فيها 7 أشهر بعد أن تسمى بالحاج عبد الغفار، الكثير من عادات وتقاليد أهالي المدينة المقدسة وزوراها، وأصدر كتابا عن رحلته للحجاز بعنوان «مكة» نقل من خلاله مشاهداته وتجاربه في الحجاز خاصة في مكة المكرمة، والذي أعادت دار الملك عبد العزيز ترجمته وطباعته بمناسبة مرور 100 عام على توحيد السعودية بعنوان «صفحات من تاريخ مكة المكرمة».
ومن ضمن ما نقله هورخرونيه الذي سكن في منطقة (سوق الليل) ــ الشرق الشمالي للمسجد الحرام ـمظاهر عيد الفطر واستقباله والاحتفاء به، والفرحة الملازمة للسكان والأهالي، موضحا أن المكيين يستقبلون العيد بالحماس نفسه الذي استقبل به شهر رمضان، حيث ينتظرون رؤية هلال شهر شوال، ويتجمع الناس لهذا الغرض في المسجد الحرام ليلة التاسع والعشرين، وكل منهم ينظر للسماء بهدف رؤية الهلال الذي في حال رؤيته يسري خبره في البيوت كالنار في الهشيم، موضحا مشاهداته عندما رأى الناس وهم ينظفون السجاد، ويضعون اللمسات الأخيرة في تنظيف البيوت، مشيرا أنه رأى الأهالي يقومون بتجديد ما تلف من النوافذ.
ويصف المؤلف الذي انكشف أمره، وأصدرت الحكومة العثمانية آنذاك أمرا بترحيله إلى إندونيسيا حيث توفي، أسواق مكة بأنها «مليئة بالناس الذين يتجولون هنا وهناك لشراء حاجياتهم التي تأخروا في تأمينها لآخر لحظة»، موضحا أن من مهام رب الأسرة شراء الملابس الجديدة لجميع أفراد عائلته، والحلوى والعطور لزواره، واستبدال حاجات المنزل القديمة بأخرى جديدة.
ويقول«يذهب الناس ليلة العيد إلى الحلاق، وهناك تجد العديد منهم جلوسا في المقاعد ينتظرون أدوارهم لحلاقة رؤوسهم وتشذيب شواربهم ولحاهم أو إزالتها، وبعضهم على ظهره كوب أو اثنان للحجامة»، مشيرا الى كل «مكي» حتى ولو كان مصابا بفقر دم، فإن عليه أن يقوم بالحجامة مرة واحدة في العام لإخراج الدم الفاسد.
وأما عن نشاط الأسر وربات البيوت في المنازل خاصة ليلة العيد فيشير المستشرق الهولندي الى أعمال الطبخ تكون جارية على قدم وساق، وبهذه المناسبة يتم تزيين غرف الاستقبال، وإعداد غرفة واسعة لطعام الإفطار الذي يبدأ بعد صلاة العيد مباشرة.
وعن صلاة العيد في المسجد الحرام، وصف حرص أهل مكة على التوجه إلى الحرم قبل شروق الشمس كي يتمكنوا من الحصول على أماكن مناسبة لهم، ولا يتركون المسجد بعد صلاة الفجر لانتظار صلاة «المشهد». وكتب يقول«إن المرء ليعجب كثيرا بمنظر الداخلين إلى المسجد وهم يرتدون ملابس العيد الزاهية الجميلة»، ويصف الطبقة الوسطى في هذا اليوم بأن مظهرها يكون مختلفا «حيث ملابسهم الزاهية الجميلة التي ادخروها لمثل هذه المناسبة».
ونقل الكاتب مشاهد عن صلاة العيد أو «المشهد» كما يطلق عليه الأهالي من داخل المسجد الحرام، وجنباته، حيث ينادى بعد نصف ساعة من الشروق لصلاة العيد، مشيرا الى ان غياب مكبرات الصوت لا يسمع صوت الخطيب الذي يعتلي المنبر بعد الصلاة «لذا تجد البعض من الناس لا يحرص على سماع الخطبة حيث يظهر هرج شديد لا يساعد على سماعها»، فيما يبادر المصلون في الصفوف الخلفية بالخروج أولا ثم يتوالى الناس في الخروج حتى لا يبقى مع الإمام سوى أعداد قليلة.
وبعد صلاة العيد يقوم الرجال الأحدث سنا بزيارة أقربائهم الأكبر، ثم الجيران«وفي العادة يذهب الرجل مع أصدقائه لزيارة أقربائهم ومعارفهم الذين لا يعرفهم شخصيا». ويقول:«إن الناس متواضعي الحال يزورون من يعملون عندهم بقصد الحصول على (عيدية)»، موضحا أن المرء يسمع في كل مكان عبارات التهنئة بالعيد مثل «جعلكم الله من العائدين، كل عام وانتم بخير، من المقبولين إنشاء الله». ويكون الجواب «إن شاء الله نحن وانتم وجميع المسلمين».
مشيرا الى «أن القهوة تقدم في ذلك اليوم إلى الضيوف بصفة مستمرة في كل الأوقات على أطباق جميلة، كما يتم وضع 3 صحون عليها (لوز، وعنب، وحلوى مشكلة) يتناول الضيوف ما يريدونه منها، ثم يقوم المباشر بتغطية الصحون بقطعة من القماش مطرزة الحواشي بخيوط ذهبية، وإذا تجمع عدد من المهنئين يسارع رب المنزل إلى إحضار الشاي إليهم، ومثل هذه الزيارات في العادة تكون قصيرة وسريعة، وعندما يهم الضيوف بمغادرة المنزل يأتي رب الدار بالمبخرة أو المرش الذي يحوي ماء الورد ليتعطر الضيوف، وفي بعض الأحيان يقدم المضيف طبقا عليه لفائف مغموسة بزيت عطري نفاذ، حيث يقوم الضيوف بغمس أصابعهم في هذه اللفائف ومسحها تحت أنوفهم».
ولا ينسى المستشرق الهولندي أن ينقل نشاط الحركة في الشوارع والميادين، ويرصد كيف يلهو الأطفال بالمراجيح التي تسمى «المداريه». موضحا أن مناسبة عيد الفطر تستمر في مكة إلى اليوم الثالث من العيد، حيث يقوم الرجال بمزيد من الزيارات للمعارف والأصدقاء، كما يتم ترتيب العديد من لقاءات السمر للاحتفاء بهذه المناسبة.
أما النساء فيؤكد المستشرق بأنهن لا يخرجن الى الشوارع لأن عليهن مهام القيام بتجهيز كل ما يقدم للضيوف من أطعمة وأشربة والإشراف عليه. مشيرا الى أن عيد النساء يبدأ من اليوم الرابع بعد أن يفرغن من خدمة ضيوف أزواجهن واحتفالهم بالعيد.
ولا يقتنع النسوة مثل الرجال بالجلوس لبضع
دقائق، بل يجلسن أوقاتا طويلة يشربن القهوة والشاي، ويتحدثن في مختلف
المواضيع، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى الخروج من المنزل بقصد
النزهة والتسلية بصحبة أطفالهن، حيث يقمن بما يسمى عند أهل مكة بـ.القيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق