ذات يوم كنت أقرأ سورة هود، فاستوقفني أمر غريب تكرر في كثير من القصص الواردة في هذه السورة، من خلال حوارات الأنبياء مع أقوامهم، ألا وهو أمر الأنبياء أقوامهم بالاستغفار، فلفت نظري هذا الأمر، وأردت أن أتابع التأمل فيه والنظر، من خلال هذه السورة وتالياً في بقية آيات وسور القرآن الكريم، فكان هذا الموضوع.
1- أمر الأنبياء بالاستغفار
بداية، لا بد أن أنبه إلى أن الأنبياء قبل أن يأمروا أقوامهم بالاستغفار أُمِروا به أولاً، فهذا نبينا محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ أمر بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين، حيث يقول الله _تعالى_: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (محمد: من الآية19).
ويمكن – عند تأمل الآية – الخروج ببعض الأمور المهمة:
الأول: إن الأمر بالاستغفار جاء بعد الأمر بالتوحيد، وهذا واضح من الآية، فالتوحيد أولاً والاستغفار ثانياً، وهو واضح الدلالة في أهميته.
الثاني: أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالاستغفار.
وإذا كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد أُمر بالاستغفار، فدلالة ذلك واضحة في أهميته.
الثالث: الاستغفار للمؤمنين، فبعد أن أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالاستغفار لنفسه جاء الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وهذا يتضمن أهمية هذا الأمر أيضاً، إذ عطف المؤمنون على أمر طلب من النبي _صلى الله عليه وسلم_ فعله، زد على ذلك أن هذه خصيصة للمؤمنين دون غيرهم، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة لاحقاً.
وأمر آخر ألا وهو أن استغفار رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ للمؤمنين يتضمن فيما يتضمن حرصه وحدبه عليهم، نتيجة إيمانهم، وهذا الحرص يدخل فيه محض النصح لهم، ومحبة الخير لهم، وتعليم جاهلهم، وتأليف قلوبهم، وإزالة الأحقاد فيما بينهم، إلى ما هنالك من الأمور التي تكون – إذا حدثت – سبباً في الذنوب والآثام. انظر( تفسير السعدي ص732).
كما أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالاستغفار في قوله _تعالى_: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً" (النصر:1-3).
فبعد أن بشر رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ بالنصر والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، أمر بشكر الله _تعالى_ على ذلك من خلال التسبيح والاستغفار، ولا شك أن هذا العمل، أعني: التسبيح والاستغفار سبب لاستمرار هذه النعمة ودوامها، بل ازديادها والله _تعالى_ يقول: "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم من الآية7).
وحين كانت الأمة تستشعر مثل ذلك، كان أمرها في علو، بل كانت في مقدمة الركب.
وحين تخلت عن ذلك في العصور المتأخرة، حصل لها من البلاء ما لا يحصى، المهم أن نبي الله _تعالى_ محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ أمر بالاستغفار بعد أن بشر ببشارات عديدة.
2- التزام الأنبياء بهذا الأمر
والاستغفار أيضاً هو فعل الأنبياء وقولهم وهجيّراهم، ولا أدل على ذلك من قوله _تعالى_ متحدثاً عن داود _عليه السلام_: "وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ" (صّ من الآية24)، فإن داود _عليه السلام_ حين حكم في مسألة الخصمين اللذين جاءا يختصمان إليه، ظن أنه ابتلي، فلم يجد ملجأ إلا الله _سبحانه وتعالى_ فاستغفر ربه، ولم يفكر بأي شيء آخر سوى الاستغفار والإنابة.
ولما علم الله منه حسن التوبة والاستغفار والإنابة، جاء التعقيب بعد ذلك مباشرة "فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ" (صّ:25).
وكما لا يخفى فقد أفادت الفاء الترتيب مع التعقيب، فجاءت المغفرة مباشرة، وأصبحت منزلته أعلى من ذي قبل.
والذي يهمني هنا التأكيد على مسألة اللجوء إلى الله واستغفاره حين يفعل المرء شيئاً، يرى أنه أخطأ أو قصر أو تجاوز فيه.
كما أن هذا هو فعل نبينا محمد _صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم_ حيث امتثل للأمر بالاستغفار، ففي (صحيح مسلم) عن ثوبان _رضي الله عنه_ "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا.ً.." بل كان _عليه السلام_ يفتتح صلاة الليل بذلك، فعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: "كان إذا هبّ من الليل كبّر عشراً وحمد عشرا،ً وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال: سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر عشرا،ً وهلل عشراً..." (أخرجه 0أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح).
إن امتثال النبي _صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم_ للأمر بالاستغفار فيه إشارة للأمة من بعده لامتثال هذا العمل في حياتهم، كيف وهم يقارفون الذنوب والآثام، فحاجتهم إليه أعظم.
فإذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يفتتح طاعة وينصرف من طاعة يستغفر الله، وإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله، فما بالنا نحن الضعفاء؟!
3- الاستغفار خصيصة للمؤمنين
حين كان إبراهيم _عليه السلام_ يحاج أباه ويدعوه إلى التوحيد، كان والده يقابله بأسوأ المقابلة، تأمل هذه المقولة منه: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً" (مريم: من الآية46)، ولاحظ أن هذه المقولة جاءت بعد مجموعة من العبارات المتلطفة من قِبَل إبراهيم _عليه السلام_.
وكان إبراهيم _عليه السلام_ حين واجهه أبوه بهذه المقولة "لَأَرْجُمَنَّكَ" لم يقابله بالإساءة أو نحوها، بل أول ما خطر في ذهنه أن يستغفر له "قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً" (مريم:47) (راجع الآيات في سورة مريم من الآية 41-47).
إذن فالاستغفار هو أول شيء فكر به إبراهيم _عليه السلام_، وكان هذا الاستغفار طمعاً في هدايته، ولذلك قال _تعالى_: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ" (التوبة: من الآية114).
ومحصل ذلك عدم الاستغفار للمشركين، ويؤكد ذلك قوله _تعالى_: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (التوبة:113).
فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزورها فأذن لي" (صحيح مسلم ، كتاب الجنائز باب استئذان النبي _صلى الله عليه وسلم_ برقم 1621).
وفي البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ وعنده أبو جهل، فقال: "أي عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنه" فنزلت "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (التوبة:113)، ونزلت "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ" (القصص: من الآية56) (صحيح البخاري – كتاب المناقب باب قصة أبي طالب رقم 3595).
وعند الحديث عن المنافقين، نقرأ هذه الآية "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ" (التوبة: من الآية80)، ونقرأ عندها أيضاً حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_ في البخاري حيث يقول: إن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_، فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له، فأعطاه النبي _صلى الله عليه وسلم_ قميصه، فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر _رضي الله عنه_ فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين، فقال: أنا بين خيرتين. قال: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم" (التوبة: من الآية80) فصلى عليه، فنزلت "وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ" (التوبة: من الآية84). (البخاري – كتاب الجنائز، باب الكفن في القميص، رقم 190).
وتأسيساً على ذلك يقال: إن الاستغفار ميزة جعلها الله للمؤمنين رخصهم بها دون غيرهم من الناس، واختارهم لها، واختارها لهم، وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يجدر بنا أن نحافظ على هذه النعمة، وأن نستثمرها فيما يفيد ديننا ودنيانا.
وفي مقابل ذلك كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يستغفر لإخوانه المؤمنين، فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: نعى لنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ النجاشي صاحب الحبشة يوم الذي مات فيه، فقال: "استغفروا لأخيكم" (البخاري – كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، رقم 412).
واستغفر للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة، والنصوص في ذلك كثيرة.
حتى الصغار!! نعم الصغار كان يستغفر لهم رسول الله _صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم_، ففي حديث أبي إياس في المسند، قال: "جاء أبي إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو غلام صغير، فمسح رأسه واستغفر له". (سنن الإمام أحمد، رقم 15661)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق