الخميس، 11 أكتوبر 2012

لماذا يجب الحديث عن سوريا ؟! .إبراهيم بن محمد الحقيل


ثمة خطيئة غريبة تتسلل إلى بعض المسلمين، تتمثل في النهي عن كثرة الحديث عن مآسي المسلمين، وهي خطيئة أول من دعا إليها الليبراليون تحت شعار الوطنية الكاذب، وحجتهم في ذلك: أن مآسينا تكفينا عن مآسي غيرنا، وأن مصالحنا أولى بالرعاية من مصالح غيرنا، وأن مفهوم الأمة الواحدة قد تغير في هذا الزمن إلى الدولة الوطنية المحدودة بحدود جغرافية ينعقد الولاء والبراء فيها دون الدين.
وكان الليبراليون يسدون النصائح للحكومات العربية بدخول بيت الطاعة الصهيوني، والاعتراف بالكيان الغاصب، والتخلي عن الفلسطينيين بحجة أن العالم اليوم عالم مصالح، والمصلحة تتحقق بالتحالف مع الأقوى، وليس معونة الأضعف، وتكررت هذه الدعوات في نوازل المسلمين في البوسنة وكوسوفا والشيشان وغيرها.
ثم تلقف هذه الفكرة الآثمة أدعياء السلفية، ولكن بحجة أخرى، وهي أن الحديث عن مآسي المسلمين أسلوب حركي في الدعوة مبتدع، وأساليب الدعوة عندهم توقيفية. وهو كذلك عندهم أسلوب فيه شحن للعواطف، وتجييش للمشاعر، يتعارض مع التوحيد الذي حصروه في طاعة الأشخاص من دون الله - تعالى -. وسمعنا لمزهم وغمزهم فيمن يتناول نوازل المسلمين، بل وصرحوا بأن الحركيين يتركون التوحيد ويتحدثون عن جراحات المسلمين، مما حدا ببعض الفضلاء في سنة من السنوات لرد هذه الطعون أن يفرد محاضرة بعنوان (التوحيد أولا)، وأمر القوم أهون من هذا الخضوع لهم.
والحقيقة التي يجهلونها أو يتجاهلونها أن الحديث عن مآسي المسلمين هو من صميم التوحيد، وهو من أبرز مظاهر الولاء للمؤمنين المنصوص عليه في كثير من آي الذكر الحكيم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا)[المائدة: 55] (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغَالِبُونَ)[المائدة: 56] (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[الأنفال: 72] (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة: 71]. وغير ذلك من الآيات..
وبقراءة هذه الآيات الكريمة تعرف حجم الجناية التي ارتكبها بعض مدعي السلفية حين ناصروا الباطني المجرم معمر القذافي على المسلمين، وأفتوه بذبحهم بحجة أنهم خوارج، وكانوا أبواقا إعلامية لنظام القذافي إلى وقت سقوطه، ومناديل يمسح بها الطواغيت قذارتهم، وأعظم جرما من ذلك ما فعله بعضهم حين ألقوا أبجديات التوحيد تحت أقدام النصيري بشار الأسد بنقد الثورة السورية، والفت في عضد الثوار السوريين، ولومهم على عدم استسلامهم للباطنيين ليذبحوهم؛ خوفا من وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في سوريا..ويا لها من سلفية وأثرية وتوحيد أوصلت أصحابها إلى مناصرة القرامطة على المسلمين من حيث يشعون أو لا يشعرون! نعوذ بالله - تعالى - من الهوى والخذلان.
وإذا طال أمد النازلة فالأصل أن يستمر حديث المؤمنين عنها، وكذلك إذا اشتدت على من نزلت بهم، أو تسارعت أحداثها، كما هو واقع الحال في سوريا؛ إذ إن هذه الثورة المباركة العظيمة قد طال أمدها، واستعصت على جميع آلات البطش، وأساليب القهر، ووسائل الاحتواء التي استخدمها النظام النصيري وحلفاؤه من رافضة إيران والعراق ولبنان، وملاحدة روسيا والصين، والدعم الغربي الخفي بعدم اتخاذ مواقف جادة لوقف نزيف الدم السني في سوريا.
وكأن بعض الفضلاء لما رأوا طول أمد الثورة السورية، وكثرة تناولها في الإعلام، وعلى ألسن الخطباء والدعاة ملَّوا الحديث عنها، أو رأوا أن ثمة موضوعات أهم وأولى منها، أو نحو هذا الكلام، وهذا خطأ في ترتيب أولويات الموضوعات، والتكييف الشرعي لها، وفي فهم واقع الثورة السورية وتداعيات نتائجها على المنطقة بأسرها، وأجمل ذلك في نقطتين رئيستين:
النقطة الأولى: جانب شرعي، وهو أن جميع ما جاء من نصوص الكتاب والسنة في الولاية بين المؤمنين، وكونهم إخوة في الدين، ووجوب المناصرة بينهم [وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] الأنفال: 72 يوجب على المسلمين بذل النصرة لإخوانهم السوريين المضطهدين، بكل ما يمكن من أنواع النصرة، ومنها: كثرة الحديث عن القضية السورية، وبيان جرائم الباطنيين، وتأليب الرأي العام الإسلامي والعربي والدولي على هذا النظام المجرم، الذي فاق في أفعاله بالأطفال والنساء والأسرى كل نظام طاغوتي آخر. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قنت للمحتجزين من المؤمنين في مكة، وسمى في قنوته: الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وكان ذلك أصلا في قنوت النوازل، وما توقف عن القنوت لهم إلا لما هربوا للمدينة كما دلت على ذلك إحدى روايات مسلم، وفي رواية أخرى (ثم لم يزل يدعو حتى نجاهم الله تعالى).
هذا وهم ثلاثة فقط، يكرر القنوت لهم كل يوم. وما نزل بأهل الشام أعظم وأفدح مما نزل بالمعذبين في مكة. وكفار مكة على شدتهم وسوئهم وإجرامهم أقل سوء وأكثر شرفا ورحمة من النصيريين وسائر الباطنيين، الذين يسومون أمة من المسلمين تبلغ الملايين سوء العذاب.. أنستكثر الحديث عن القضية السورية، وهذا هو الهدي النبوي عن المعذبين في مكة؟ وإنني لأدين الله - تعالى -أنه لو دعي للسوريين في كل سجدة، وتحدث عنهم في كل جلسة، وافتتحت المحاضرات والكلمات والندوات بذكر قضيتهم، لكان ذلك أقل مما يجب علينا تجاههم، ونسأل الله - تعالى -العفو والغفران على تقصيرنا.
النقطة الثانية: جانب سياسي، وهو أن الصفويين كانوا يعدون أنفسهم منذ نيف وثلاثين سنة لابتلاع الخليج، والقضاء على السنة، وتطويق الدول السنية من جميع جهاتها فيما عرف بالهلال الشيعي الذي يمثل جدار عزل لدول أهل السنة عن العالم الخارجي لمحاصرتها واستنزافها ثم افتراسها. والسياسيون في الخليج كانوا خلال العقود الماضية يركنون للحامي الأمريكي، ومطمئنين له، باعتبار أنه شريك استراتيجي في سلعة استراتيجية (النفط) وبالتالي فهو حليف استراتيجي لا يمكن بحال أن يغير مواقفه تجاه دول الخليج، ولن يتخلى عن حمايتها من الأطماع التوسعية الإيرانية، وهو الذي حماها من أطماع الشيوعيين فيما مضى. وزاد من حالة الركون الخليجي للأمريكان ما تظهره السياسة الأمريكية من عداوات لإيران، فتضعها على لوائح الإرهاب، والدول المارقة، ومحور الشر، وكذلك كانت إيران تظهر العداوة لأمريكا، وتعلن البراءة منها في كل حج، وتطلق الشعارات العدائية ضدها حتى وصفتها بالشيطان الأكبر.
وإزاء هذا التخدير الأمريكي الإيراني لدول الخليج أصيبت بنوم سياسي وعسكري عميق، ولم تتخذ خطوات جادة لرد الخطر الإيراني المحدق بها حتى كانت الصفعة الأمريكية المؤلمة لدول الخليج حين سلمت أمريكا العراق لإيران بالمجان، وتبخرت الأحلام الوردية الخليجية، واستيقظت والعدو الصفوي يدق أبوابها، ويتمدد في منطقتها، ويحرك خلاياه النائمة؛ إيذانا ببدء المعركة الفاصلة لتحقيق الحلم الصفوي، وتحويل نظرية أم القرى (الإمبراطورية الشيعية الفارسية) إلى واقع.
وفي هذه الأجواء المعتمة تنزلت رحمات الله - تعالى -وألطافه على أهل السنة باندلاع الثورة السورية؛ لتعيق المشروع الصفوي وتلخبط حساباته، وتربك الراعي الرسمي لتسليم المنطقة للصفويين، (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ)[يوسف: 100].
ولو نجحت الثورة السورية في إقصاء النصيريين عن حكم الشام -وهي في طريقها إلى ذلك إن شاء الله تعالى- فإنها ستكسر الهلال الباطني، وستقطع الحبل القرمطي الذي يلتف على رقبة دول السنة في المنطقة، وستؤخر المشروع الصفوي سنوات عدة إن لم تقض عليه نهائيا؛ ولذا فإن إيران خرجت عن تقيتها السياسية، ورمت بكل ثقلها خلف النظام النصيري مع ما في ذلك من مجازفة كبيرة، لكنها تستحق ذلك لأهمية سوريا في المعادلة الصفوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق